الأقسام

مراجعة كتاب “أزمة العالم الحديث” لرينيه جينو

image_title

يحدث أحياناً عند قراءة بعض الكتب أن أكتب موجزاً ألخص فيه أبرز أفكار الكتاب مع تحليل ونقد ما يتعنى لي منها، وهذا الكتاب كان نصيبي في ذلك، حيث كتبت هذه المراجعة في المقهى والطائرة وقبل النوم وأحياناً في القطار بعد يوم مرهق، وقد أضمنه بعض المناقشات لأفكار الكاتب بحسب ما يجود به المزاج والوقت وفق ما فهمته منه:

- ينطلق الكاتب من مقدمات غنوصية وهندوسية دون البرهنة يلبها، لدى القارئ مشكلة مع هذه المقدمات، فهو لم يسلم بها ابتداء، ولم يفهم طبيعتها، ولا يجد محاجة عنها من الكاتب، وهذه مشكلة في الحقيقة لدى قارئ عبدالواحد ومرهقة له خلال قراءة إنتاجه.

- في الفصل الأول يقرر عبدالواحد أثر وخطورة القطيعة بين الماضي والحاضر، باعتبار العصر الحاضر هو نهاية المنتج البشري الحديث، بينما تمثل العصور الماضية بالنسبة لمعاصري العصر الحديث تأخراً وعبثاً في عمومها، ويؤكد عبدالواحد أن هده النظرة ركيزة في العصر الحديث على كونها نظرة خاطئة تماماً، وقد بلغت البشرية ذروة في النتاج المعرفي والدنيوي في بعض جوانبها مما لم تبلغه الآن، ويمثل بالقرون الوسطى والقرون التي يصطلح عليها بقرون الأساطير، ويطرح حجة بسيطة في أن من أسباب جهل العصر الحديث بالحضارات السابقة كون كثير مظاهرها المادية مصنوعة من خشب أو ما هو قابل للفناء دون أثر، وهذه حجة لطيفة وغريبة في الحقيقة ولا تدليل عليها ومن الصعب مطارحة الأدلة في معرض هذا السياق إذ له محله، كما يؤكد عبدالواحد أن العصر الحديث لم يستلّ من العصور السابقة سوى معارف دنيوية عقلية فلسفية أو تجريبية، وأنه يختزل العصور السابقة بذلك وهذا ملفت رائع.

- يقرر عبدالواحد في الفصل الثاني الاختلاف الحضاري التام بين الشرق والغرب إضافة إلى أنه يراه اختلافاً حديث النشأة لم يكن من قبل من حيث هو تكتل في جانبين، وعلى تنوع الشرق إلا أن عبدالواحد يؤكد على قواسم مشتركة تتمثل في التقليد وفي العقل التقليدي، واستمراراً لما ذكره في الفصل السابق فإن الكاتب يرى أن العقل الغربي بتحوله وتنكبه عن التقاليد لا يستطيع العودة إلىها لكونه افتقد آلية استيعابه لها، إلا في حال واحدة، وهي العودة للقرون الوسطى باعتبارها الأقرب لحاله ولما تختزنه من تقليد مهم، لا يقصد عبدالواحد التقليد بمعناه وحمولته السلبية، إنه يتحدث عن المكون العقلي والمعرفي الذي يمكنه أن ينهض بالحضارة، كما يقرر عبدالواحد أن التقليد لا يمكن أن يخلو من مكون لاهوتي، ولذا يرى العودة للقرون الوسطى بما فيها من مخزون تقليدي هو الأولى، وأن تنهض به نخبة مثقفة، إن عموم الناس في رأيه لا يعلمون ما يكون وما يحاك لهم ولا يأبهون، وعليه يرى عبدالواحد أن خلق تقاليد جديدة محال، والاستفادة من الشرق محال للاختلاف الشاسع بين الحضارتين، إذ لا يمكن أن تقتبس الحضارة الغربية من الشرقية لتباين المنطلقات والطبيعة، وقد نقد عبدالواحد خلال ذلك مسمى الفلسفة التقليدية، وفي نهاية الفصل أكد عبدالواحد أن الشرق لا يسعى لاستيلاء الغرب كما يسعى الغرب لذلك لطبيعة عقليته الحديثة، وهذا محل تساؤل ونظر لكون الشرق مغلوب في حقيقته، إضافة لذلك فقد تناول عبدالواحد الشرق الأدنى باعتباره قريباً من الحضارة الغربية لكنه عند التدقيق يتباين معه وهو أقرب للشرق.

- في الفصل الثالث والمعنون بـ "المعرفة والعقل" يلتقط عبدالواحد التقاطة رائعة لجوهر الاختلاف بين الشرق والغرب والذين يكمن في التأمل والفعل، فبعدما يبرهن على استحالة اتخاذ أحدهما دون الآخر (العقل أو الفعل) لشعب ما استحالة واقعية، حينها يؤكد عبدالواحد على أن الشعوب الشرقية تميل عادة للتأمل بينما الغربية تميل للفعل وإن وجدت نخبة منها تميل للتأمل، كما ينوه بأن الميل للفعل هو أمر حادث وهذا ما يعنيه بالعقل الغربي المخالف للعقل التقليدي، وهنا على عبدالواحد أن يبرهن على فكرته بحجج أظهر، فهل هذا حقاً واقع؟ وما هي حدود التأمل الذي يعني فيه عبدالواحد الإعمال العقلي؟ لغيرها من السؤالات المشروعة، ويؤكد عبدالواحد أن الغرب في القرون الوسطى كان متزناً فيها بنحو ما.

ثم ينطلق عبدالواحد للحديث عن فكرة مركزية أخرى في هذا الفصل وربما هي الأهم، وهي أن العقل التقليدي يبحث في المحرك الأساس، وفيما هو ثابت كالمبدأ أو المحرك الذي لا يتحرك، وهو بذلك يعد حدساً فوق عقلي، بينما العقل الغربي يبحث في نطاق نسبي في الجانب التأملي، ولا يعي أهمية وضرورة الثبات فيه، بخلاف الجانب الفعلي المغاير للتأملي فإن العقل الغربي يبحث فيه بمنطق عقلاني، إلا أن هذا الحدس يعد حدساً تحت عقليّ، فهو بذلك سطحي ولا يلامس الثبات المهم الذي يجده عبدالواحد فارق مركزي بين الشرق والغرب، وهذه النقطة وإن أسرف عبدالواحد كعادته في الاستشهاد بمقدمات بوذية دون شرحها أو التدليل عليها، إلا أنها نقطة مركزية في المقارنة بين العقل الشرقي والعقل الغربي، ولم يفصل فيها عبدالواحد ويبرهن لها بما تستحق.

- في الفصل الرابع يعرض عبدالواحد ما يتعلق بالعلم الدنيوي والعلم المقدس (الميتافيزيقي كما عبر عنه في سياق آخر في الفصل نفسه)، وغني عن الذكر ما يعنيه عبدالواحد من تفوق الشرق في العلم المقدس على تفوق الغرب في العلم الدنيوي، وهنا وامتداداً لما قرره عبدالواحد من افتقاد العقل الغربي في علومه الدنيوية للاتصال بالمحرك الذي لا يتحرك والمبدأ الأساس يلتقط عبدالواحد التقاطة فريدة وهي محل نقاش وتساؤل على فرادتها حول ما يتعلق بكثافة التخصصات الجزئية للعلم الواحد حتى استعصت عن أن يستوعب العالم بالفن هذا التخصص بفروعه في العلوم التجريبية، ويحيل عبدالواحد السبب في ذلك إلى افتقاد الصلة بين العلم التجريبية والمبدأ الذي تستند له جميع المبادئ، ويستدل بأن أرسطو ربط الفيزياء بالميتافيزقيا باعتبارها تابعة لها ونموذجاً تطبيقياً لزء منها بينما فصلها المعاصرون تماماً فباتت الفيزياء تتحرك في حقل لا حد له ودون تحكم بها واستحالت لفعل كل ما يمكن (الجملة الأخيرة شرح مني)، وعلى ما يتجه لهذه الفكرة من سؤالات إلا أنها التقاطة جميلة.

ثم يؤكد على فكرة أخرى عرضاً وهي أن العلم التجريبي وإن استند إلى وقائع فهي وقائع خام لا تثبت بذاتها شيئاً، وإنما هي مرهونة لتفسيرات مسبقة، وهذا النقد يتوجه لبنية النظرية العلمية وهي أن التجارب بذاتها لا تفيد شيئاً مالم تكن تجارب محكومة بآراء محددة.

ويعود عبدالواحد بعد ذلك إلى الفكرة المركزية التي استفتح بها هذا الفصل وهي أثر القطيعة بين العلوم الدنيوية والعقل التقليدي والتأملي بسبب الانفصال عن المحرك الذي لا يتحرك في الجانب التأملي مما جعل لهذه العلوم طبيعة دنيوية بحتة فهي لا تنتهي إلى قضية أساسية ولا تنطلق من الأعلى إلى الأسفل أو تنتهي بانطلاقها الفرعي من الأسفل إلى مبدأ محدد وإنما هي سيالة (هذه الكلمة شرح مني) بهذا الاعتبار، ويحيب عبدالواحد عن سؤال لماذا تقدم الغرب حضارياً في هذه الفترة؟ بأن التقدم المادي يلزم منه إهمال في جانب آخر، بمعنى أدق، إن إهمال الغرب للعقل التقليدي والجانب التأملي أتاح المجال كاملاً للفعل وللعقل الدنيوي المناقض للمعرفة الدينية دون حد، وهنا أسئلة متجهة في الحقيقة، هل يمكن تحقيق تقدم معرفي دنيوي بعقل تقليدي تأملي كهذا التقدم أم يجب تغليب الحظوة لأحدهما؟ يرى عبدالواحد أن العقل التأملي في السابق كان محظياً، ولغلبته كانت العقل الدنيوي يسير وفق الحاجة وبقدر معقول.

إجابات عبدالواحد عن بعض الاستشكالات مقتضبة وقد تعدم أحياناً، ربما لاعتبار طبيعة الكتاب، إلا أنها أسئلة ذات أهمية حول معنى التقدم وحقيقته والتلازم بين الدنيوي والمعرفي وهل يمكن إهمال التقليدي دون تقدم معرفي الخ.

- في الفصل الخامس يتحدث عبدالواحد عن الفردانية التي يعني بها إنكار لأي مبدأ أعلى من الفرد، كالحقائق الميتافيزيقية ونحو ذلك، ومن هذا المنطلق يوضح أن الحضارة القائمة اليوم هي حضارة فردانية لا تعبأ بالمبادئ التي فوقها، كما أن الدين أصبح مكوماً إلى الجانب الضيق والهامشي وبات ممارسة ليس إلا، فلا أحد يطرح حوله التساؤلات ولا يكادأزحد يريد أن يفهمه، حتى المجتمعات الكاثوليكية باتت مشابهة للبروتستانية مشابهة كبيرة وإن كان ظاهرها خلاف ذلك، ويلتفت عبدالواحد إلى فكرة لطيفة بعض الشيء وهي “ملكية الأفكار”، فعبدالواحد يؤكد أن الأفكار لا يملكها من يكتشفها وإنما من يفهمها فالحقيقة لها وجود مستقل عنا، ثم يربط عبدالواحد بين عقلانية ديكارت في بداية عصور النهضة وأن حتميتها هي الفردانية وصيرورتها باتت في التطورية (لم يظهر لي الربط بين الأمرين ولم يتضح، ولكم تمنيت أن لغتي قوية بما يكفي لقراءة الكتاب بنصه الأساسي لفهمه بدلاً من التعرقل في هذه الترجمة المرهقة)، في نهاية الفصل يعبر عبدالواحد بتعبيرات أدبية ومجازية جميلة كقوله: “إن الإنسان المحدث بدلاً من أن يسعى إلى الارتقاء إلى الحقيقة يطمح إلى إنزالها لمستواه”، وغير ذلك، وخلال الفصل أكد عبدالواحد على فضيلة العقل التقليدي باعتباره مؤمناً بالمادي ما فوق الفردية التي لا يدركها العقل الإنساني والتي يجب أن يؤمن بها بدلاً من إنكارها وتجنب الاعتراف بها، كما أكد أن عصوو النهضة والإصلاح هما عصر القطيعة من مع التقليد التي أنجبت العصر الحديث.

- في الفصل السادس يناقش عبدالواحد مشكلة العصر الحديث في المكابرة على وجود الطبقات الاجتماعية ونفيها من الوجود والصحة، ما يعنيه هو إزالة الفوارق بين الآخرين مما قد يترتب عليه أن الجميع يمكنه فعل كل شيء تحت غطاء المساواة التي تفترض تماثل الآخرين وتماثل ما يناسبهم من تعليم ونحوه، وفي نقده للمساواة يلتقط التقاطة رائعة أن قيماً مثل المساواة والتقدم والعدالة لا تخضع للنقاش في العصر الحديث في الوقت الذي يُخضع العصر الحديث كل شيء للنقاش! وماهية حجم الدعاية المقصودة لهذه المصطلحات وحجم من تنطلي عليه من البشر!  ثم يؤكد عبدالواحد خلال ذلك أن هذه المساواة نتج عنها أن الجميع يعمل في الوظائف التي لا تناسبه إلا قلة بمحض الصدفة التي نجهل عللها، وهذه مفارقة مع كوننا في عصر التخصص، ولم يفصل كثيراً حول هذه النقطة وإنما انتقل للتعاطي مع قيمة نابعة عن المساواة وهي الديموقراطية باعتبارها نتيجة عملية لفكرة المساواة من جانب أداة الحكم ليوجه إليها انتقادات أولها في فكرة الاستحالة العقلية أن يكون شعب ما حاكماً ومحكوماً في آن واحد وأن هذه مجرد دعاية قدمت من الحكام لخداع المحكومين ومع الجدل حول هذا النقد وهل تدعي الديموقراطية أنها توفر حاكماً ومحكوماً في الآن نفسه إلا أن عبدالواحد ينبه إلى التغافل عن حجم الجهود التي تبذل لتوجيه آراء الناس وأثرها، ويستبطن عبدالواحد -كما يظهر لي- فكرة أن أحقية مساواة الجميع في اتخاذ قرارات الحكم أمر فاسد ولم يصرح به، ثم يثنّي عبدالواحد للنقد الجوهري في فكرة الديموقراطية وهو أن رأي الأكثرية عادة يدل على قلة الكفاءة، إذ الآراء العقلية اللاإرادية كما تدلل ملاحظات علم النفس الجماعي وغيره على ضعف الآراء الصادرة عن الأكثرية وأن الأكثرية ليس بالضرورة أن تكون آراءهم أوفق من الأقلية وأن مبدأ حكم الأكثرية وإن كان نظرياً صالح إلا أنه تطبيقياً غير صالح، ثم أي عقل حديث تقبل هذه الفكرة؟ وأي إجماع حصل حقيقة عليه؟ إنه أمر مشكوك فيه كما يؤكد عبدالواحد خصوصاً مع وجود أكثرية دوماً لا رأي لها، وينوه إلى أن هذه النظرية تفتقر للأساس إذ يسهل التملص منها تحت تأثير العاطفة كما سهل التصديق بها، ثم ما هو قانون العدد الأكبر الذي تتمسك به الحكومات؟ إنه قانون كمي مادي يخضع للقوة الوحشية، وهذه علاقة المادية بالديموقراطية، إن جوهر الديموقراطية هو أن أي فرد يساوي أي فرد آخر عددياً، ومن هذا المنطلق قامت، فأصبح الكيف ضحية للكم، والنخبة ضحية للأكثرية، ويرى عبدالواحد أن نخبة قليلة لا يمكن أن تكون إلا عقلانية (محل نظر فما هي العقلانية المقصودة هنا هل التي لا تأتي الشر؟ فالنخبة إن استفردت تستطيع السعي لمصالحها الخاصة وفق عقلانيتها، لكن يبدو أن عبدالواحد يتحدث عن المبدأ) بخلاف الأكثرية فلا يمكن أن تكون إلا عاطفية، ولاستحالة إزالة الاحتلافات بين الناس واستحالة العلاقية في الأكثرية توصل العقل الحديث بواسطة نزعة منطقية مادية إلى تصنيع نخبة مريفة تهدف للحلول محل النخبة الحقيقية، لذا نقول (عبدالواحد) إن الصراع هو بين ديموقراطيات وفردانيات متعددة تختلف نسبياً بحجم زيادة التوجه المساواتي ولها طابعها المحض الذي يجعل الفوارق بين الناس في عالم المساواة هي فوارق مالية ثرواتية في الحقيقة وهذا وتد العلاقة بينهما جلي وواضح، والفردانية كما ذكرها في الفصل السابق بالنسبة له بدقة تعني الديموقراطية.

لذا يرى عبدالواحد أن الغرب يفتقد لهذه النخبة ويجب أن يعيد صناعتها من جديد لأن الأفراد المعزولين فيه غير متماسكين، ولا يتطرق عبدالواحد للشرق هنا مع كون الشرق يمثل في جملة منه عالماً معاكساً للغرب وهذا مستغرب لكونه مظنة أهمية واستحضار في هذا السياق.

- في فصل حضارة مادية ينتقد عبدالواحد فكرة حصر العلم في العلم المادي ويصطلح عليها بالعلموية، إضافة إلى حصر التفوق في التفوق المادي، وينتقد كل ما يتعلق بتجاهل العلوم الهامة والضرورية، وينتقد عبدالواحد كثيراً استنكار الغرب من كونه مادياً ويتعجب من هذا الرأي الغريب الذي يراه خلافه في كل مكان، إن العلم مثلاً لم يعد مستقلاً كما كان من قبل، بل أصبح العلم الذي نطلبه هو العلم الذي يمكن تطبيقه مادياً، إنه أسلوب براغماتي في التعامل معه، لذا ولأول مرة أصبح سبب وجود العلم وباعثه بالنسبة لنا هو توظيفه والقدرة على تطبيقه! وهذه التقاطة رائعة تحسب لعبدالواحد ورشيقة أيضاً، ويكمل عبدالواحد تسلسل أفكاره إلى التأكيد على أن الأمر لم يتجاوز تثوير العلوم المادية لأجل المادة وإنما تحريف العلوم الموجودة كالمادية التاريخية التي تفترض أن كل أسباب التغير هي وحدها أسباب اقتصادية في الحقيقة دون النظر والاعتبار لغير ذلك، ويسخر عبدالواحد من فكرة العصر الحديث عن إنهاء الحروب في وقت بلغت فيه القوة التدميرية للأسلحة وعتاد الجيوش أكثر من أي وقت مضى، كما يسترسل عبدالواحد في أن الشرق لا ينافس الغرب حقيقة في المسار المادي إلا للتخلص من هيمنته (وهذا الأمر وإن كان حقاً بالنسبة والتناسب، إلا أن الشرق ليس طيفآً واحداً وإحسان الظن بجميعه محل نظر، إضافة إلى أن المقومات التي لدى الغرب لو كان لدى الشرق فهل ستختلف النتيجة تماماً؟ هذا محل نقاش).

ثم يعود عبدالواحد لفكرة أن العلم اليوم لما تعاملنا معه برغاماتياً حيث أصبح العلم الذي لدى الغرب هو علم مادي فقط، وهذه المخترعات لا تخضع لأي قوة تحد من استعمالاتها الضارة، إننا نسرف في الاختراع ونسارع فيه لأنه خاضع لشروط العلم في هذا العصر، فهو قابل للتطبيق، يخدم المصالح الشخصية ولو أفسد مصالح العالم كله وأضر بها، لذا يقول عبدالواحد في عبارة جميلة عن مآل ذلك: “العالم المعاصر سينتهي بتدمير نفسه بنفسه،إذا كان عاجزاً عن التوقف عن متابعة هذه الطريق طالما لا زال هناك متسع من الوقت” ص١٢٢، وبعد ذلك ينتقل عبدالواحد لفكرة أن الغرب لأنه لا يسلم بأن ما لا يقع تحت الحواس ذو قيمة، ويعد معدوماً، فإنه لا يمكن أن يرضى بألا يعمل الناس ويكتفوا بالقليل، لأن من لا ينتج مادياً ولا يتحرك يعد كسولاً من وجهة نظر الغرب، وحتى على مستوى الإنسان، فأبطال هذا العالم هم الأقوى رياضياً، هذا هو الذي يقع تحت الحاسة حقيقة، ولو كانوا وحوشاً بشرية فهم الأكثر قيمة، وهكذا فالأسرع والأقوى الخ هم الأقوم، هنا يتساءل عبدالواحد إن كنا فعلاً نظن أن من قبلنا أقل سعادة منا؟ أم أن ثمة حاجات اعتدنا عليها فأصبحنا نظنها ضرورة لذا بتنا نسارع في امتلاكها ونسعى لامتلاك ما يعيننا على امتلاكها وهو المال تحت مسمى الرفاهية (ملفت لطيف ويستوقف القارئ)، وكلما ازداد المال ازداد الطلب لأنهم يكتشفون باستمرار حاجات جديدة، ثم أصبح الأقوى (الأكثر امتلاكا لأنه أكثر مالاً) هو الأحق بالبقاء، لذا انتشر الحسد وتعمم لأن من بُشروا بالمساواة يعيشون في حالة فظيعة من اللامساواة، ثم يختم عبدالواحد مؤكداً بأن العقل الحديث لاشك هو معادٍ للدين في جوهره ولا يمكن أن نطلق على الغرب بأنه مسيحي لأن العقل الحديث لا يمكن أن يكون مسيحياً.

- في الفصل ما قبل الأخير ويبدو كأنه الأخير فعلاً يتساءل الكاتب عما سيحل بالعالم فيما بعد؟ إنه يتجاوز مقدمة هل سينهار الغرب أم لا، فهو متيقن منها إلا أنه لا يعرف إن كان سينهار بالتأكل والصراعات الداخلية أم بهجوم الشرق أم بغير ذلك، فهذا حادث لا محالة، لأن العقل الحديث والروح الخارية لا يمكن أن يستمران بشكل من الأشكال، ثم يتحدث عبدالواحد عن المتغربين الذين فتنوا بالتبشير الغربي فتغربوا، وهم قلة، إلا أن الغرب لجهله بالشرق ورجالاته لا زال يكون صورة عن الشرق من خلالهم، إن عبدالواحد يؤكد كما تحدث مسبقاً أن عقلية التبشير والدعاية هي عقلية غربية وليست شرقية، (وهذا محل نظر في الحقيقة عبدالواحد هنا يقول بأن الشرق لا يمارس دعاية لعقله التقليدي وروحه، بخلاف الغرب الذي يمارس الدعاية دائماً ويبشر بها، لكن لو أتيح المجال للشرق فهل سيفعل أم لا؟ عبدالواحد يرى أن تركيبة الشرق ليست كذلك، من الممكن أن نفهم أن مفهوم الدعاية يعني الاستعمار السياسي والثقافي لأن عبدالواحد بعد ذلك انتقل للسخرية من الغرب الذي يستعجب من دفاع الشرق عن وطنه ضد الاحتلال الغربي ويسمه سفاهة وهمجية، ومن الغرب الذي يحتل الشرق باسم العدالة والمساواة، وهذا معنى مفهوم بشكل ما، لكن ماذا عن الشرق في القرون الوسطى؟)

- في الخاتمة أو الفصل الأخير يستعرض عبدالواحد بعض النتائج والتي منها:

١- أن فهم أزمة العالم الحديث تقتضي انتهاءها، لأن الأزمة أمر سلبي ومجرد تعال على الحقيقة، كما قرر في الفصل السابق أن الغرب عبارة عن شريحة عريضة من السذج الذي خدعوا بأنهم من يبني الحضارة وينشر القيم، وشريحة نخبوية صغيرة من المخادعين الذين يعرفون كيف يخدعون الآخرين لمصالحهم.

فمجرد المعرفة كافية للتغيير دون كارثة.

٢- الحضارة الغربية ستنقرض تماماً ولا يمكن الاستفادة منها في المستقبل إذا لم تحافظ نخبة على العقل التقليدي بشكل ما وينهض الغرب في وقت ما.

٣- هذه النخبة الغربية يجب أن تكون ذات مكون غربي، أي: مكون غربي ثقافي يمتلك العقل التقليدي، لا أن تكون امتداد المكون الشرقي، فإن المكون الشرقي والثقافة الشرقية لا يمكن أن تنهض بالثقافة الغربية وتلحق بها وإن كانت ذات عقل تقليدي لأن الغرب غير الشرق، فستكون في الحقيقة شرقية.

٤- النخبة في الشرق تحافظ على العقل التقليدي وتورّثه ويجب عليها فعل ذلك لأنه يجب (وهنا سؤال لماذا يجب؟)

٥- إن نهضة الغرب بمكون غربي وعقل تقليدي يستلزم وجود نخبة تحافظ عليه، وهذا أمر مشكوك فيه جداً.

٦- إن الخندق الأخير للغرب للمحافظة على عقله التقليدي هو في الكنيسة الكاثوليكية، ومن الواضح أن أربابها لا بفهمون ذلك.

٧- العدد ليس مهم، فالميدان ليس ميدان مادة، إنما المهم هو الكيف (وهو محل تساؤل ومطالبة بالحجج؟)

ثم أفاض عبدالواحد في تصوره عن هذه الطليعة ومن يعارضها من غيرهم من الماديين ونحو ذلك مستشهداً باقتباسات إنجليلية عديدة، ونبه إلى أن كلامه في كتابه جاداً لا يُعنى بمراشقات جدلية وقد أعرض فيه عن جوانب فلسفية محل استطراد تجنباً لذلك مع إحاطته بها علماً، كما أنه يرفض أن تلصق به أي سمة غربية على أي حال وبدا في كلامه صارماً.


ملخص الملاحظات العامة على كتاب رينيه:

- البناء على مقدمات كثيرة دون البرهنة عليها أبرزها دورة كونية للعالم.

- رينيه باستناده لمقدمة كالي يوجا فإنه يعد العصر المظلمة هي ما آخر ما وصلنا من الفلسفة التي في القرن السادس قبل الميلاد وهم فلاسفة الجيل الأول والثاني والفلسفة الهندية والصينية لكنه في مواطن يستدل بفلسفة أرسطو باعتبارها قيمة مرجعية بالنسبة لفلسفة العصر الحديث وهذا مشكل لأنها ضمن العصور المظلمة بنظره، وفي مواطن أخرى يقول بأن ما يحدث من أخطاء هي استثناءات وتمرد على الروح الرباني مثل فكرة التغير عند هيرقليطس وكيف رد الإيليون عليهم وفكرة قابلية كل شيء للانحلال عند البوذية، حسنآً مالذي يجعل هذا استثناء من عدمه؟ ويجعل هذا صحيح من عدمه؟ وكلها ضمن كالي يوجا يجعلها محل نظر والأولى الاستدلال بما قبلها لا بها!

- ما هو ضابط الفلسفة الربانية عند رينيه؟ فالبوذية والكونفشيوسية والطاوية ليست ربانية من حيث المعنى الرباني الديني؟ والهندوسية مشتبهة. من الواضع تأثر رينيه بالتصوف الفلسفي كابن عربي وغيره، وهذا ظاهر في سيرته.

- لا يهتم رينيه بنوعية المصدر وماهية الإرث من حيث الصحة من عدمه وإنما يهتم بكونه ميتافيزيقياً وحسب والميتافيزيقيا أوسع من الربانية، لكنه يخصصها بالرباني وحسب، وهذا لأن منطلقاته مجرد تصوف فلسفي.

- يمكن لأي مدافع عن الحضارة الغربية أن يتساءل: ما المشكلة إذا اكتملت الدورة الكونية بعد ذلك؟ ما دمنا مستمتعين فما المشكلة لو اتخذت الدورة الكونية سنتها (ليس لأجل أن تبدأ من جديد وإنما بالنسبة لنا) ؟ في الحقيقة لا يوجد جواب موضوعي لأن رينيه لا يهتم بمصدرية موضوعية محددة ذات مآل كجنة أو نار، المهم هو الميتافيزيقية.

- عندما نهتم بمجرد "النظر" أو "المعرفة" هلى حد تعبير رينيه، فما لم تكن هذه المعرفة تستند لقيمة موضوعية متجاوزة فإنها في الحقيقة ستنتهي لعبث ولا يوجد أي فضيلة إطلاقاً بهذا النوع من النظر الإنساني المجرد وغير المحدد، وبذلك في الحقيقة سيكون "العمل" المادي المنتج أفضل من النظر العبثي!

- من اللافت أن رينيه لم يعرّف الحضارة على كثرة ما استخدمها.

- رينيه أراد أن يصرخ ضد المادية، ولكنه لم يكن يمتلك البوق الصحيح "أعني الميتافيزقيا المصدرية الصحيحة"، فاستعار كل ما هو مجوّف "أعني أي ميتافيزقيا ممكنة" للصراخ في وجه المادية، ما يشغل في الحقيقة باله المادية وليس الروحية.

- واضح أن رينيه كان مشحوناً وأن كتابه رد فعل واضحة لأن وقته صادف وقت الاستعمار وتدخل الغرب بكل تفاصيل الشرق فكأن رينيه آنذاك مشحون من هذا الغرب ويريد الرد فقط عليه ومجافاته ولا يهتم بتقسيم الشرق كأنه يريد الانتهاء من الغرب ثم الانطلاق للشرق، لذا اختزل الشرق كثيراً وتحدث عنه خطأ بالنيابة.

للمشاركة:


تعليقات



للإشتراك في النشرة البريدية 📩