الأقسام

الأشياء العادية، ليست عادية

لي صديق أخبرني ذات يوم بقصة لا تفارق مسمعي من حينه، إن ذلك اليوم الذي تخرج فيه من بيتك ثم تعود منه بكل ما يحمله ذلك اليوم من شقاء ليس يوماً عادياً البتة، ودعني أخبرك بقصتي قبل أن أخبرك بقصة صديقي ذلك.

أعمل في وظيفة ممتازة، ذات مرتب ملائم، ومسار مهني جيد، أقضي في وظيفتي ما لا يقل عن ٨ ساعات، أما الوقت الذي أقضيه في طريق الإياب والذهاب فلا يقل عن ساعتين، لقد عرفني من حولي من صحبي بجزعي من هذا الطريق والزحام الذي لم يغب عنه يوماً ما، حتى أني هجوته (أي: الطريق) بقصائد عدة! ولا يجهل أهلي وزوجتي وأصحابي عداوتي وشتائمي التي أبتكرها يوماً بعد يوم حوله، لقد كانت "الوظيفة العادية" وظيفة مزعجة بالنسبة لي، أعود كل يوم منهكاً مرهقاً إلى زوجتي وابني بالكاد تحملني قدماي وأجزع من هذه “العيشة” كما أسميها، لا يعقل أن يقضي المرء ١٠ ساعات من يومه في عمل لا يشبهه أو زحام لا يطيقه! ذات يوم كنت في مجلس يجمعني بصحب لي لم ألتقي بأحد منهم منذ أيام الدراسة الجامعية أو قريباً منها، لوهلة وأثناء حديثي أشار إلي صديق لي بطرف عينيه إشارة تحذيرية، فهمت عنه أن ألتزم الصمت أو أتنبه فيما أتحدث حوله، وقبل أن ننفض عن مجلسنا علمت غاية صديقي من إشارته تلك، فبينما يستخبر أحدنا الآخر عما آلت إليه الحال بعد سنين من التخرج شارفت العقد من الزمن؛ إذا بأحد زملاء الدراسة الجامعية ما زال يفتش عن وظيفة له أياً كانت هذه الوظيفة وأياً كان مرتبها، سألني صديقي بعدما خرجنا من مجلسنا ذاك، "وأنت تشكو من زحام الطريق وساعات العمل؟" لوهلة لم تعد الوظيفة التي كنت أراها عادية -ومؤذية أحياناً- مجرد وظيفة عادية، فالأشياء العادية -في الواقع- ثمينة جداً!

وعوداً على قصة صديقي التي أخبرني بها، فيبنما كنا نتجول ذات يوم في أحياء المدينة نخوض في أحاديث مختلفة ومتعددة، سألته عن قصة وفاة أربعة من طلابه كانت قد عجت بأخبارهم وسائل التواصل يومها، لم أكن في الحقيقة معنياً بالقصة تماماً بقدر ما عنيت بمواساة صاحبي، فقد علمت أنهم -يرحمهم الله- قد توفوا في حادث سيارة، عندها سألني صديقي بغتة: كم مرة سلكتَ طريق الرياض - الدمام؟ أخبرته أنني لا أحصي عدد المرات التي سافرت فيها بين الرياض إلى الدمام، إنه طريق مسلوك ومطروق حتى إنك تعده أحياناً من طرق المدن الرئيسة لكثرة سالكيه والمتاجر المتراصة على جانبيه ولقصره بالنسبة لغيره من طرق السفر، ثم سألني مرة أخرى قائلاً: “عندما تسلك طريق سفر مالذي تخافه وكيف تتوقاه؟” أخبرته بطبيعة الحال أخوف ما يخافه المرء حوادث السيارت، أما كيف يتوقاها فبالأسباب المعلومة كحزام الأمان وتجنب السرعة والنوم وغيره، ابتسم ثم قال: أما قصة هؤلاء فهي من أعجب العجب، تخيل يا عبدالرحمن! كانوا أربعة في سيارة واحدة، يسيرون ليلاً في المسار الأوسط من الطريق غير مسرعين ولا متهورين، فجأة توفاهم الله جميعاً وهم على الطريق وبدأت تنحرف بهم السيارة حتى توقفت من نفسها ولم يعلم أحد عن سبب ما حدث، بعد البحث والنظر من الجهات المعنية اتضح أن ثمة إطار من إطارات الشاحنات الكبيرة كان يسير في الاتجاه المعاكس من الطريق سيرآً متقافزاً وأراد الله -جل جلاله- أن يهبط هذا الإطار بغتة على سقف السيارة دون أن يبصروه ودون علم منهم حيث قضوا جميعآً نحبهم في لحظتها، حتى أنهم لم يجدو الإطار بعد ذلك وإنما استدلوا به على أثره! عندها باغتني صديقي بسؤاله: هل تجد سبباً من الأسباب يمكن أن يدفع ذلك عن أحد؟

حقاً إن الأشياء العادية ليست عادية! كم مرة سلكت طريق سفر ووصلت إلى حيث تريد ثم عدت من حيث خرجت وأنت تشعر أن هذا هو “الشيء العادي” والذي يجب أن يحدث دائماً؟ كم مرة سمعت من يتحمد عليك بسلامة الوصول وشعرت أنها مجاملة منه فليس ثمة خطر يستدعي ذلك؟ 

وكم مرة خرجت من بيتك وتركت أهلك في دعة وسكون نائمين دون أن تقلق عليهم أو تخف من غائلة تصيبهم ثم عدت وهم على حالهم من الدعة والطمأنينة ولم تحمد الله على هذه النعمة أو تشكر لأن هذا هو “الشيء العادي” الذي يجب أن يحدث؟ لي صديق أخبرني ذات مرة أنه اطلع على قضية رفعت إليه لزوجين لم يرزقوا بذرية إلا بعد أن بلغ بهم الكبر عتياً فوهب الله لهم طفلان كالريحانتين بعد صبر جميل وعمر طويل، وذات مرة خرج الوالدان من البيت إلى محل مجاور لشراء حاجات يسيرة وقد تركوا ابنيهما نائمين في دعة وأناة، ما إن خرجوا حتى اتصل بهم جارهم ليخبرهم بأن ثمة دخان بتصاعد من البيت فعادوا مسرعين مذهولين وإذا بابنيهما قد قضوا نحبهما اختناقاً من الدخان الذي تصاعد من غرفة نومهما، هل تدري ما كان سبب هذا الدخان؟ “عيب مصنعي” في مكيف الغرفة شاء الله أن يظهر في هذا الوقت الذي خرج فيه الوالدان بالتحديد ليختنق به طفلاهما ويفارقا الحياة! 

كم مرة آويت أبناءك إلى فرشهم وأوصدت عليهم الباب وخفت عليهم من أن يحترق مكيف غرفتهم فيخنقهم دخانه؟ أراهن أن ذلك لم يخطر ببالك ولا مرة واحدة!
وليس الأمر محصوراً على الأحوال المفاجئة والظروف المباغتة، فقد يقدر الله أمراً دونما سبب يبدو للمقضي عليه، ولا تظهر له الحكمة من ذلك ولا تبدو له، وقد يقع عليه البلاء في أقرب الأشياء إلى قلبه، فكم سمعت من قصص لأزواج كانوا مضرب مثل في الحب والوله ثم باتوا في عشية وضحاها مضرب مثل في العداوة والبغض؟ وكم سمعت من حكايا لأقوام كانوا في تجلة وأبهة من الثراء والوجاهة فباتوا ليلتهم تحت وطأة الفقر وذل المهانة؟ ولمَ تظن أن مثل هذا لا يصيب إلا غيرك؟ ولابد أن يتعداك إلى سواك؟ ولمَ تحسب أنك في حصن منيع عن غوائل الزمان؟ ودرع سابغة من بلاياه وصروفه؟

إن ذهابك لعملك كل يوم وعودتك منه وأنت بصحة وعافية وأهلك في دعة وأناة وأمن ليس شيئاً عادياً، وجلوسك مع أهلك على مائدة واحدة لتناول الغداء ليس شيئاً عادياً، وضحكاتك مع والديك أو زوجك أو إخوتك وأبنائك على طرفة معتادة ليس شيئاً عادياً، ونومك في الليل دون أنة وألم واستيقاظك في الصباح دون وجع ليس شيئاً عادياً! 

التفت من حولك، كل شيء يخبرك أن الأشياء العادية ليست عادية، إنها أشياء لا تقدر بثمن ولا تشترى بمال، إنها أشياء تستحق شكراً خالصاً وحمداً دائماً وامتناناً بالغاً لمولاك.

للمشاركة:


تعليقات



للإشتراك في النشرة البريدية 📩