الأقسام

لماذا أكتب؟

لماذا أكتب؟ لا أدري، أعرف أني كتبت كثيراً، الأوراق المتراكمة لدي في درجي وعلى مكتبي وبين دفاتري أكثر مما أظنني كتبته، لمَ يكتب الإنسان؟ لا أدري، الذي أعرفه حقيقة أني أتعافى عند الكتابة، أتعافى جيداً، أخرج منها كفارس استراح ساعة بين يدي حبيبته، وصبي نام ساعة في حضن أمه! عندما أطوي ورقتي بعدما أشعر أنني استشفيت منها وشفيت، أقف مزهواً، أتنفس بطمأنينة ووقار دائبين، وفي هذه اللحظة بالتحديد، أنتشي حماسة وأتقد همة، أتساءل في بعض الأحيان، كيف كان البشر بشراً قبل اختراع الكتابة؟ كيف يعيشون ويعالجون مشكلاتهم، كيف يفكرون؟ إذا استثنينا موضوع اللغة، فأي اختراع هو أعظم من اختراع الكتابة! كثيراً ما أيقنت أن البشر قبل الكتابة أكثر ذكاء وحصافة إن استطاعوا العيش دونها.

سألتني والدتي عندما أخبرتها عن توظيفي للكتابة في مواجهة الأفكار والمشكلات: ماذا تكتب؟ أظن والدتي الآن تكتب أكثر مني، وربما زوجتي، الكتابة عدوى، من يجربها لا يستطيع أن ينفك منها.

ليس ما أكتبه غريباً، ولا عسيراً، ليست هنالك قوانين محددة لما نكتب وما لا نكتب، عندما أخبرت صديقي أنني أكتب لأتعافى، سألني كيف تكتب؟ مالذي تكتبه بالضبط؟ ببساطة أخبرته أنني أكتب ما أفكر فيه وحسب، أمسك القلم بيد، والورقة بيد أخرى، ثم أكتب ما أفكر فيه، في البداية لا أعرف ماذا سأكتب، لم تمر علي مرة واحدة كنت أعرف فيها ماذا سأكتب، بمجرد أن تبدأ فإنك ستكتب، أعدك بذلك، فقط خذ قلماً وورقة، وكل ما تفكره في عقلك، كل ذلك الضجيج والصخب في ذهنك وقلبك، فقط اجعله مكتوباً، لا تتبع قوانين معينة، لست أكتب بالفصحى أو بالعامية، مرة هكذا وهكذا، لا أتبع مقدمة ولا خاتمة ولا ألتزم أسلوباً معيناً، أترك لنفسي العنان، وقد تكونت لي عادات خلال ذلك، فمثلاً عندما أحاول علاج مشكلة ما أبدأ بسؤال: ما هي المشكلة؟ وأسبابها؟ ولم؟ وكيف؟ ومتى؟ وماذا لدي؟ وكيف أعالجها؟ وما هي الخطوات مرتبة؟ وما جدولتها؟ الخ وهكذا، أسئلة بسيطة أليس كذلك؟ لكنك بالتأكيد ستدهش عندما تدرك كثافة إجاباتك واسترسال قلمك في معالجتها؟ لم؟ لأن الكتابة عملية تفكير، ولكنها عملية تفكير عميقة، ستبهرك الأفكار التي تتساقط عليك وأنت تكتب، أشياء لم تفكر بها من قبل، وقد تظن الأمر مجرد مصادفة في البداية، وستدرك حجم القدرة التوليدية للأفكار التي لديك عند الكتابة، إن الكتابة اختراع باهر، ابتكار مدهش، مسرعة أفكار، وآلة ذكية حقاً.

لقد التزمت كتابة مذكراتي الشخصية منذ ٦ سنوات، تقلبت خلالها في طقوس عديدة وغريبة، كتبت كل يوم وأسبوع وشهر، كتبت ما حدث ومالم يحدث وما تعلمت وما أنجزت وما أملت به وتألمت منه، مع مضي الوقت وتراكم الخبرات والتجارب اندمجت مذكراتي مع مفكراتي، أعني أن المذكرات أصبحت بالنسبة لي عملية تفكير كذلك، لا أكتفي بكتابة ما حدث، بل بما لم يحدث، وكيف سأفعله، وبما أتمنى، وبما أعالجه وتجاوزته وسأتجاوزه، هكذا أصبحت بالنسبة لي عادة أشعر بأن شيئاً ما قد اضطرب عند تركها، كما يحدث لك عندما لا تنام جيداً، أو تستحم بسرعة شديدة، ثمة شيء خاطئ، هكذا بالضبط، وبمجرد أن تعاوده يتسق كل شيء.

يقول جورج اورويل: “إذا كان الناس لا يستطيعون الكتابة بشكل جيد، فلا يمكنهم التفكير بشكل جيد، وإذا لم يتمكنوا من التفكير بشكل جيد ، فإنهم سيتركون للآخرين وظيفة التفكير بدلاً عنهم”، إني مدين للكتابة في كثير من المشكلات التي تجاوزتها، والطموحات التي حققتها، علمت فيما بعد أن الكتابة إحدى وسائل العلاج النفسي، أبهجني ذلك، إذاً هي ليست شيئاً شخصياً، ليست خاصة بالأدباء ولا بالشعراء، الكتابة فعل إنساني بامتياز، يا للروعة!

اكتب يا صديقي، إن الكتابة فعل وجودي، إنها أرقى منازل الفكر، اكتب فلن يطلع على أوراقك أحد، إنها ملكك، وهي طريقتك في التعاطي مع الأشياء، اكتب لا لتنشر، اكتب لتفهم، إن أذكى الناس هم الذين يدركون الواقع بصورته الكبيرة دون أن يغفلوا تفاصيله الصغيرة، اكتب، فالكتابة هي وسيلتك المثلى لذلك.

للمشاركة:


تعليقات



للإشتراك في النشرة البريدية 📩