في طريقك ذات يوم لامتحان عصيب وقد بذلت وسعك واستنفدت جهدك في مذاكرة مقرراته وضبط موضوعاته لتتفاجأ أثناء استلامك للورقة أن استعدادك الطويل كان لامتحان آخر غير هذا الامتحان، تسير بسيارتك الجديدة على الطريق السريع ثم تنحرف على حين غرة كي لا تصطدم بقطّة تحاول عبور الشارع فإذا بسيارتك تصبح أثراً بعد عين، تنتهي من المقابلة الوظيفية التي يمنّيك فيها من يقابلك ويعدك وعوداً قاطعة بأنك المرشح الوحيد ثم يتصل بك بعد أيام متأسفاً لأن الوظيفة المعنية قد ألغيت لأسباب خارجة عن الإرادة -على شدة حاجتك للوظيفة وعلو مؤهلاتك-، تطرق الأبواب تلو الأبواب لتعف نفسك بالزواج ثم تصلك الاعتذارات الخجولة بعد طول انتظار عن إتمام الخطوبة، وماذا أيضاً؟ هل حقاً فشلت؟
ماذا لو لم تكن مسلماً؟
يتجلى جمال الشريعة الإسلامية ويتبدى ألق من بهاء الإسلام في مفهوم “النجاح” الذي لا يقتصر على نتائج بعينها فضلاً عن المعايير المحدِّدة لها، فأنت في ظل الإسلام لست مكلفاً بتحقيق النتيجة كي لا تكون “فاشلاً”، لكنك مكلف بالسعي لتحقيقها لتكون “ناجحاً”، وثمة فرق جوهري ومهم هاهنا، فحصول نتيجة معينة تحتف به عوامل كثيرة وظروف عديدة تحكمها إرادة المولى -سبحانه- واختياره بحكمته، بينما أنت عبد ضعيف مسكين لا حول لك ولا قوة إلا بإرادة خالقك ومدبر أمرك وشأنك، وما يطلبه سبحانه وتعالى منك هو استفراغ الوسع وبذل الجهد سواء أستطعت تحقيق ذلك أم عجزت عنه، وسواء أكان ذلك على مستوى حياتك الدنيوية التي تقاتل في ميدانها الرهيب، أم في عملك الصالح الذي ترجو به رضى الله -جل جلاله-؛ فالمعيار هو "فاتقوا الله ما استطعتم"، إنه المبدأ النموذجي والمثالي الذي يكسو القلب طمأنينة السعي، وحب العمل، واستفراغ الجهد في تحصيل المراد وبذل الجهد فيه، أما تحقق "النتائج" أو “الأهداف” وحصولك على أي منها فهو أمر موكول إلى ربك؛ إذ هو مدبر الكون وإليه يرجع الأمر كله، فما شاء كان ومالم يشأ لم يكن، حتى خير البرية وأفضل الرسل صلوات ربي وسلامه عليه، والذي بذل غاية جهده ومناه ورفع يديه وما كلّتا في دعوة ربه لقومه وتحمل الأذى والمشاق في سبيل هدايتهم يخاطبه سبحانه بقوله: "ليس لك من الأمر شيء" لم؟ لأن "الأمر كله لله"!
ابنك الذي بذلت جهودك المضنية لهدايته، دراستك التي أقفلت على نفسك الأبواب للاجتهاد فيها، سعيك كل صباح لطلب الرزق من الله تعالى، دعوتك لوالديك أو أحد إخوتك بالهداية والصلاح، أهدافك لهذه السنة والتي لم تستطع تحقيقها لظروف قاهرة لا حول لك فيها ولا قوة، أمنية الطفولة التي تبخرت لإعاقة بدنية أو عقبة مادية، مشروعك التجاري الذي خسرته رغم استيفائك كل الأسباب اللازمة، المنكر الذي بذلت وسعك لإنكاره بكلامك اللطيف الهين اللين فلم تستطع تغييره، ترقيتك في عملك التي سعيت فيها بكل ما تستطيع فلم تحصل عليها … الخ = هذا كله ليس فشلاً! لا يغرنك كلام المثبطين من أرباب “تطوير الذات” و”التنمية البشرية” تحت لافتات "كيف تحقق أهدافك خلال شهر وتصبح ناجحاً في حياتك"، ولا تتلاعب بك الأفكار المجنونة المستوردة من المجتمعات المادية عن مفهوم “النجاح” لديهم، ولا تنصت لحظة واحدة لحكايا من يتسمرون “البودكاستات” للتباهي بمنجزاتهم تحت يافطة "إنما أوتيته على علم عندي"، كل هؤلاء يخرفون ويكذبون ويخبصون، لست بفاشل! أنت والله -ما دمت تسعى- ناجح!
بين “قلق السعي” و “طمأنينة السعي”:
إن معنى "النجاح" المستورد من المجتمعات المادية يحصر مفهومه في تحقيق نتيجة ملموسة ومحسوسة، فلو أحفيت قدماك تكدّ ليلك ونهارك ولم تحقق هذه النتيجة “الملموسة” لأي سبب كان ولو لعارض صحي -مثلاً- فأنت لا تزال في دائرة مفهوم “الفشل” عن تحقيق أهدافك ومرادك، ويعود هذا السبب على “كسلك” و“حظك العاثر”، أما معنى النجاح في الإسلام فإنه يتفرد ويتميز بكونه لا يتأثر بأحكام الآخرين وتصوراتهم، كما أنه لا يعتبر بحالك الظاهرة اعتباراً معيارياً، فقد تعتلي منصباً ظاهره الفساد فتسعى وتحفد ولا ترجع من سعيك بمصلحة واحدة أو مكسب واحد إلا أن تقلل الشرور عن المسلمين وما أسعدك به من نجاح، أوليس قد قصّ الله علينا كفاح نبيه لوط في دعوة قومه ولم يكد يهتدي منهم أحد، وضرب امرأة فرعون التي كانت تخفي إيمانها في بيت فرعون مثالاً يقتدى به، وحكى لنا قصة نبيه نوح الذي مكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ولم يحمل معه في السفينة إلا قلة من المسلمين، وكلهم ناجحون في “أهدافهم” و”مشاريعهم”، لأننا لا يمكن أن نفهم “النجاح” في الإسلام دون أن نفهم معنى القضاء والقدر على وجهه وندرك العلاقة بين بذل السبب والتوكل على الله.
يمكن أن يتجلى مفهوم النجاح في الإسلام في كلمة “الحمدلله، مكتوب” تلك الكلمة الظريفة التي ننطقها عندما نصاب ببلاء أو أمر لم نقدر على دفعه أو نحتاط لأجله، ويمكن أن يتجلى مفهوم “النجاح” في الإسلام في جملة “هذا من فضل ربي” تلك الجملة البهية التي ننطقها عندما نظفر بأمر ما، وكلا الحالين نجاح في الحقيقة، لأن النجاح متمثل في بذل الوسع البشري لتحقيق المراد سواء أكان من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة، فإن بلغنا المراد فذاك خير على خير، وإن لم نبلغه فثمة طمأنينة تكسو صدورنا بأننا بذلنا ما نقوى عليه، وهذا المعنى من النجاح هو ما يدفع عنا الشعور بالفشل، ويا “عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرآء صبر فكان خيرآً له”، ففي أعمال الدنيا يكفي أن تبذل جهدك وتستفرغ وسعك في تحصيل مرادك فإن صرفت عنه لأمر عارض أو قدر محتوم فلا ملامة عليك فقد نجحت في السعي إليه إلا أنه صرف عنك لأمر هو خير منه فاطمئن لما بلغته من الخير، وفي الأعمال الصالحة فيكفي أن تنوي فعل الخير فتكون كمن فعله ولو قبضت روحك قبل فعله، ويكفي أن تتوب بصدق ولو قبضتك ملائكة الموت وأنت تنأى بصدرك إلى القرية التي فيها القوم الصالحون!، ولسوف يأتي الناجحون يوم القيامة بأشكال غير معهودة ولا مألوفة ولا تخضع لمعايير عصرنا القاصرة، سيأتون بأشكال مختلفة، سيأتي "النبي ومعه الرجلان" وسيأتي "النبي وليس معه أحد"!
{من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة}